«يا شيخ يا للى عا الجبل يا شيخ ندرك على عجلين وأربع دبايح عاجلين والدم سايح».
بتلك الأغانى انطلقتُ مع أهل العروس إلى مقام شيخ الجبل لنأخذ البركة، الأحد يومٌ مناسب جدًا للزيارة الأسبوعية، قبل ليلة الزفاف بأيام، تلف العروس حول الضريح ومن خلفها أهلها ينثرون الملح عليها، تنطلق الزغاريد والأغانى لتملأ الضريح، ومع توزيع المخبوزات والفطائر والحلوى على الجالسين بجوار المقام، منتشيًا على إيقاع أغانيهم المبهجة والتلقائية، فكرت وتمايلت معهم قليلًا مراعيًا وضعى الاجتماعي.
«فين رقصك بتاع زمان كبرت نفسك علينا؟»
«لا يا ولد ابوي»
«ما لك؟»
«نفسى يبطلوا خرافات وأوهام»
يضحك منى ويتركنى آدم ابن عمى ليشتبك فى رقصة تحدى مع صالح.
يدخل الهواء النقى صدري، استسلم لتلك المساحة الخضراء من الحشائش، ألقى بجسدى عليها.
حياتى أصبحت مملة فمنذ حصولى على مؤهلى الجامعي، وأنا عاطلٌ عن العمل، صامتا مع وعودٍ لا تتحقق لحبيبتي. انظر إلى العالم بنظرةٍ بائسة، عمائر شاهقة وأدخنة متصاعدة، وزحام العربات ذلك الذى لا ينتهي.. تسمع أذنى دعاء امرأةٍ تحلم بالإنجاب حتى لا تُطلق «واد يا أبو الكرامات.. واد والنبى»
رجل ضرير يتلمس حائط المقام
«عيالى فاتونى يا مولانا بآكل م الزبالة، بس مسامحهم.. مسامحهم ورب الكعبة ربنا يبعد عنهم ولاد الحرام»
.. يأتى رجلٌ حاملا مسبحةً تصل إلى الأرض، يصرخ بملابسه المتسخة
«يا كبير...
يا بو القمصان يا حامى الناس الغلابة، الغلابة جاعت جاعت، والدنيا بتولع.. العيا كتر قوى يا صاحب المقام إنجدنى ببركتك يا طاهر يا نقى يا كبير..»
من خلفه أتى رجلٌ يلبس جلبابًا أبيض قصير ولحيةٍ طويلة، راح يضربه
«أستغفر الله العظيم.. بطّلوا كفر بقى دى بدع ده كفر»
بسرعة التف حوله الناس وأخذوا منه العصا.
.. «ده حرام» قالها الرجل صاحب اللحية فرد عليه الناس
«أهو ده اللى فالحين فيه.. من رأى منكم منكر يغيره بإيده، طب والحاجات التانية ما بتعملوهاش ليه ؟!..»
انصرف الرجل متأففًا.. «حرام.. بدع»..
فى حين بدأ الناس يطيبون خاطر صاحب المسبحة، ثم هدأت الضجة، وبدأت حكاياتهم تتوالى عن شيخ الجبل مولانا أبو القمصان، ذاك البطل الذى كان يحمى الضعفاء من بطش الأقوياء والأثرياء.
شقيٌ كان يسرق من الأثرياء ليوزع المال على الفقراء، حتى قبض عليه وفى السجن تعرف على «عرفان» ذلك العابد الزاهد، والذى سجن فى قضية شرف، ليتعلم منه القراءة والكتابة وحفظ القرآن.. وأخذ منه العهد.
خرج أبو القمصان من السجن شيخا، وفضّل الابتعاد عن الحياة، خافت منه ذئاب الجبل، حتى الأفاعى ابتعدت عن طريقه كلما خرج من صومعته. يطعم كل من جاء إليه، لا يرد أبدا طلب أى محتاج، وبفضله عاش الناس فى هدوءٍ وأمنٍ وسلام.. حكى كل شخصٍ حكايات عنه، وكأنه بطلٌ أسطوري. يأتى فجأة ويلبى طلب أى مظلوم ثم يختفي، حين مات أقام الناس له ضريحًا باسمه. ويتذكرون أفعاله الطيبة.. انصرفت الجموع الغفيرة والتفت حول المقام.
عدت من الجبل وأنا لا أعرف هل هذا حرام أم حلال؟
فهؤلاء الضعفاء ينساقون حول الرجل المنقذ حتى لو كان لصًا. تمنيت أن أكون ذاك الشيخ، وأقاوم الجهل والفساد والظلم، ولكنى خفت فجأة عندما سمعت صوت عربة الشرطة تدخل إلى شارعنا، للقبض على إرهابىٍ خطير. دمعت عينى مع صوت طفل يبكى حتى يشترى له أبوه بعض الحلوى، ولكن ليس فى جيبه ثمنها، رأيت دموع الرجل تتساقط على خديه، ويضرب ابنه حتى يصمت.
«نظرت إلى الجبل متمتمًا... ألا ترى ؟!..».
قصة قصيرة/ جمال بربرى
ضع تعليقك